عندما ينزل بالمؤمن البلاء يحتاج إلى أن يرجع إلى الله ليعرف حكمة البلاء,
ويعرف كيف يتعامل معه عندما ينزل. وما البرنامج الذي يسير عليه حتى يخفف عنه المصيبة
وتنزل السكينة على قلبه ويتمتع بنور الصبر, ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بقراءة الوحي (الكتاب والسنة).
قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ} [الملك:2], وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35], وقال سبحانه وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[النساء:78],
وقال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ
وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ}
[البقرة:155-157].
ويؤخذ من هذا أن نزول البلاء امتحان وأننا
نحتاج إلى معرفة الحقائق وأولها أن هذه المحن معها منح ربانية من الجزاء
الوفير والغفران التام, وأن الموت سنة من سنن الله في كونه، ولكنه مع ذلك
ليس فناء بل هو انتقال من دار إلى دار, من دار الدنيا إلى الآخرة, ومن
دار العمل إلى دار الجزاء, ومن دار الفناء إلى دار البقاء, ولذلك
وبهذا الفهم قد كان أبو ذر الغفاري رضي الله تعالي عنه, لا يعيش لديه
ولد, فسئل في ذلك فقال: الحمد لله الذي يأخذهم مني في دار الفناء
ليدخرهم لي في دار البقاء, وقال الشاعر:
لا تظنوا الموت موتا إنه لحياة هي غايات المنى
لا ترعكم فجــأة المــوت فهـي إلا نقلة من هاهنا
وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34], وقال
تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27].
يمضي الصغير إذا انقضت أيامه إثـر الكبير ويولد المولود
والنــاس في قســم المنيــة بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي:
(
إن عظم الجزاء مع عظم البلاء, وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم, فمن
رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ), وقال عليه الصلاة والسلام: ( عجباً
لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن, إن أصابته سراء
شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) (صحيح مسلم),
وقال فيما أخرجه الترمذي: ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه
وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ), وقال صلى الله عليه وسلم:
( يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل
الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ) ( البخاري ), وقال: ( إذا مات ولد
العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي, فيقولون: نعم, فيقول
قبضتم ثمرة فؤاده, فيقولون: نعم, فيقول: ماذا قال عبدي؟,
فيقولون: حمدك واسترجع, فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه
بيت الحمد) (أخرجه الترمذي في سننه),
قال الشاعر:
وإنمـــــا أطفـــــالنا بيننــــا أكبادنا تمشي علي الأرض
إن هبت الريح على بعضهم امتنعت عيني عن الغمض
فالروح باقية لا تفنى ولذلك عند رحيل الأحبة نستمر في عمارة الدنيا ونزيد
من العمل الصالح ونهب ثواب أعمالنا إلى من رحل صغيراً كان أو كبيراً, فعن
أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن
أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم
(صحيح مسلم). ولما مات أبو وكيع بن الجراح خرج في يوم وفاته في درسه
اليومي وزاد أربعين حديثاً عما كان يحدث به كل يوم, وبعدما دفن أبو يوسف
ــ صاحب أبي حنيفة ــ ابنه, حضر مجلس أبي حنيفة بعد الدفن ليتعلم حتى
يتجاوز الأحزان.
قال الشاعر:
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها صبر الكـــريم فـــإنه بك أكرم
وإذا ابتليت بكربة فالبس لها ثوب السكــوت فــإن ذلك أسلم
لا تشكون إلى العباد فإنما تشكو الرحيم إلي الذي لا يرحم
فالمصيبة تعلمنا حقيقة الدنيا وأنها فانية وأنها متاعٌ قليل, قال تعالى:
{مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا
تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77], وقال تعالى: {وَمَا الحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام:32], وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا
تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ}
[الحديد:22-23] ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله أسوة حسنة
حيث مات أبناؤه وأحباؤه في حياته وفي كل الأعمار حتى قال عندما مات
إبراهيم: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا والله يا
إبراهيم إنا بك لمحزونون ومات حمزة وجعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم
وكانوا أحب الناس إليه فعلمنا كما علمنا القرآن: {إِنَّا للهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156], وراجعون تبين أن الموطن الأصلي للروح
هو عند الله فمن هناك أتت تفضلاً ومنة, وإليه عادت حكمةً وفضلا