الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:
فإن عمرو بن العاص من الصحابة الأجلاء -رضي الله عنهم- الذين توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض ، ومن الذين صحت لهم الفضائل والمناقب العديدة.
وقد وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصلاح وبالإيمان ، وكانت له الجهود العظيمة في حروب الردة وفي الفتوحات الإسلامية وكان من كبار القواد في عهدي عمر وعثمان -رضي الله عنهما- .
وهو فاتح مصر وغيرها من الأماكن .
وقد وردت قصة عجيبة في إسلامه اشتملت على فضيلة له وللنجاشي واشتملت على تاريخ إسلامه وإسلام خالد بن الوليد -رضي الله عنه- .
وأحببت في هذا البحث أن أخرج القصة وأبين ثبوتها .
ومن اللطائف أن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- هو الصحابي الذي أسلم على يد تابعي .
فالنجاشي -رضي الله عنه- تابعي لأنه لم يلق النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره .
والله أسأل التوفيق والسداد .
## لفظ القصة ##
عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال : ((لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ، ويسمعون مني ، فقلت لهم : تعلمون والله اني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً ، وإني قد رأيت أمراً فما ترون فيه؟
قالوا: وما الذي رأيت ؟
قلت : رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد ، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.
قالوا: إن هذا الرأي .
فقلت لهم : فاجمعوا له ما نهدي له ، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأُدُم ، فجمعنا له أدماً كثيراً ، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه ، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري ، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه .
قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده .
قال : فقلت لأصحابي : هذا هو عمرو بن أمية ، فلو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربتُ عنقه ، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع ، فقال: مرحباً بصديقي ، أهديت إلي من بلادك شيئاً؟
قال: قلت : نعم أيها الملك ، قد أهديت لك أُدُماً كثيراً.
قال: ثم قدمته إليه ، فأعجبه واشتهاه .
ثم قلت: أيها الملك ، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك ، وهو رسول رجل عدو لنا ، فأعطنيه لأقتله ، فإنه قد أصاب من أشرافنا وأعزتنا .
قال: فغضب ، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره ، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها خوفا منه .
ثم قلت له: أيها الملك ، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.
فقال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله ؟!
قال: قلت: أيها الملك ، أكذاك هو ؟
قال: ويحك يا عمرو ، أطعني واتبعه ، فإنه والله لعلى الحق ، وليظهرن على من خالفه ، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده .
قال: قلت: أتبايعني له على الإسلام ؟ قال: نعم . فبسط يده ، فبايعته على الإسلام.
ثم خرجت على أصحابي ، وقد حال رأيي عما كان عليه ، فكتمت أصحابي إسلامي.
ثم خرجت عامداً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامي ، فلقيت خالد بن الوليد ، وذلك قبيل الفتح ، وهو مقبل من مكة ، فقلت: أين يا أبا سليمان؟
قال: والله لقد استقام المنسم ، وان الرجل لنبي ، أذهب والله أُسْلِمُ فحتى متى؟
قال: قلت: فأنا والله ما جئت إلا للإسلام .
قال: فقدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبابع ، ثم دنوت ، فقلت: يا رسول الله ، إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي ، ولا أذكر ما تأخر .
قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عمرو ، بايع ، فان الإسلام يجب ما كان قبله ، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها)). قال: فبايعت ، ثم انصرفت.
## تخريج القصة ##
للقصة عدة طرق المعتمد منها ما رواه أحمد في مسنده(4/198) ، والبخاري في التاريخ الكبير(2/311) مختصراً ، وابن جرير الطبري في تاريخه(2/146) ، والطبراني في المعجم الكبير-كما في المجمع(9/351)- ، وفي الأحاديث الطوال(ص/212) ،
وابن يونس في تاريخ مصر –كما في تعجيل المنفعة(1/519)- ، وابن عبد الحكم في فتوح مصر(ص/252-253) ، والحارث بن أبي أسامة في مسنده(2/933رقم1029-زوائده) ، والطحاوي في شرح مشكل الآثار(1/442رقم507) مختصراً ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين(3/297) مختصراً ، و(3/454)مطولا ، والبيهقي في السنن الكبرى(9/123) مختصرا، وفي دلائل النبوة(4/346)مطولاً ،
وابن عساكر في تاريخ دمشق(16/226) مختصراً ، و(46/121، 123)مطولاً ، وابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب(7/3127)
من طرق عن محمد بن إسحاق -وهو في المغازي(3/270رقم1448-سيرة ابن هشام)- قال: وحدثني يزيد بن أبي حبيب عن راشد مولى حبيب بن أوس الثقفي عن حبيب بن أوس قال: حدثني عمرو بن العاص -رضي الله عنه- من فيه إلى أذني فذكره.
وقد روى مسلم في صحيحه(1/112رقم121) ، وغيره من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلاً ، وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول : يا أبتاه ، أما بشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا ، أما بشرك سول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا.
قال: فأقبل بوجهه ، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، إني قد كنت على أطباق ثلاث :
لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني ، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار .
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه ، قال: فقبضت يدي ، قال: ((مالك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط .
قال: ((تشترط ماذا ؟)).
قلت: أن يغفر لي . قال : ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله)).
وما كان أحد أحب إلي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه ، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ، ولا نار ، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
وللحديث طرق أخرى لا حاجة لي بذكرها الآن .
وقد ذكرتها بتوسع في بحثي : [الأحاديث الواردة في الحبشة والنجاشي -رضي الله عنه- .] وهو لم يكتمل بعد.
##الحكم عليه##
الحديث صحيح .
فمداره على محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن أبي حبيب عن راشد مولى حبيب بن أوس الثقفي عن حبيب بن أوس قال: حدثني عمرو بن العاص -رضي الله عنه- به.
## تراجم رواته:
# محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم: وثقة جمع كبير من الأئمة وتكلم فيه آخرون والراجح أنه وسط حسن الحديث حجة في المغازي .
قال ابن معين –رحمه الله-: كان ثقة وكان حسن الحديث.
وقال أحمد: هو حسن الحديث.
وقال أبو معاوية الضرير: كان ابن إسحاق من أحفظ الناس.
وقال شعبة بن الحجاج: ابن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث.
وقال علي بن المديني: حديثه عندي صحيح.
وقد وثقه البخاري وقوى أمره جداً في جزء القراءة خلف الإمام ودافع عنه ورد الطعون الموجه إلى ابن إسحاق فمما قال البخاري : وقال لي علي بن عبد الله (هو ابن المديني) نظرت في كتب ابن إسحاق فما وجدت عليه إلا في حديثين ويمكن أن يكونا صحيحين .
وقال البخاري : ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها.
وقال أبو زرعة الدمشقي: وابن إسحاق رجل قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه ، وقد اختبره أهل الحديث فراوا صدقاً وخيراً مع مِدْحَة بنِ شهاب له. وقد ذاكرت دحيماً قول مالك فيه ، فرأى أن ذلك ليس للحديث إنما هو لأنه أتهمه بالقدر.
وقال يعقوب بن شيبه: سمعت بن نمير يقول : إذا حدث عن من سمع منه من المعروفين فهو حسن الحديث صدوق ، وإنما أتى من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطله.
قال ابن حبان في الثقات : تكلم فيه رجلان ؛ هشام ومالك ، فأما قول هشام فليس مما يجرح به الإنسان ، وذلك أن التابعين سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها وكذلك ابن إسحاق كان سمع من فاطمة والستر بينهما مسبل ، وأما مالك فإن ذلك كان منه مرة واحدة ثم عاد له إلى ما يجب ، ولم يكن يقدح فيه من أجل الحديث ، إنما كان ينكر تتبعه غزوات النبي –صلى الله عليه وسلم- من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصه خيبر وغيرها ، وكان ابن إسحاق يتتبع هذا منهم من غير أن يحتج بهم ، وكان مالك لا يرى الرواية الا عن متقن ، ولما سئل ابن المبارك قال: أنا وجدناه صدوقا ، ثلاث مرات.
قال ابن حبان : ولم يمكن أحد بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه ، ولا يوازيه في جمعه ، وهو من أحسن الناس سياقاً للأخبار ، إلى أن قال: وكان يكتب عمن فوقه ومثله ودونه ، فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى النُزول ، فهذا يدلك على صدقه ، سمعت محمد بن نصر الفراء يقول سمعت يحيى بن يحيى وذكره عنده محمد بن إسحاق فوثقه .
وقال أبو يعلى الخليلي : محمد بن إسحاق عالم كبير وإنما لم يخرجه البخاري من أجل روايته المطولات ، وقد استشهد به ، وأكثر عنه فيما يحكي في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أحواله وفي التواريخ ، وهو عالم واسع الرواية والعلم ثقة .
وقال ابن البرقي : لم أر أهل الحديث يختلفون في ثقته وحسن حديثه وروايته ، وفي حديثه عن نافع بعض الشيء .
قال الحاكم : وذكر عن البوشنجي أنه قال : هو عندنا ثقة ثقة .
فالخلاصة أنه حسن الحديث على أقل أحواله وحديثه في المغازي صحيح .
انظر: تهذيب الكمال(24/405) وتهذيب التهذيب(3/504-507=الرسالة) وميزان الاعتدال(3/468-475).
# يزيد بن أبي حبيب واسمه : سويد الأزدي مولاهم ، أبو رجاء المصري ثقة فقيه كثير الحديث وهو من رجال الجماعة كما في التهذيب .
# راشد مولى حبيب بن أوس الثقفي : ذكره ابن حبان في الثقات(6/302-303) وقال: يروي المراسيل .
وقال عثمان الدارمي في تاريخه(ص/110رقم330): وسألته-يعني: يحيى ابن معين- عن راشد مولى حبيب بن أوس فقال : ثقة يروى عنه المصريون.
# حبيب بن أوس ويقال: ابن أبي أوس الثقفي: ذكره ابن حبان في الثقات(4/139) في ثقات التابعين.
وذكره البخاري في التاريخ الكبير(2/311) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل(2/96) ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً .
وصحح له الطحاوي في مشكل الآثار(1/442رقم507) .
وعده الحافظ ابن حجر في الصحابة فذكره في الإصابة(2/15) في القسم الأول من حرف الحاء وقال: [حبيب بن أوس أو بن أبي أوس الثقفي : ذكره بن يونس فيمن شهد فتح مصر فدل على أن له إدراكاً ، ولم يبق من ثقيف في حجة الوداع أحد إلا وقد أسلم وشهدها فيكون هذا صحابياً ، وقد ذكره بن حبان في ثقات التابعين ].
وقال الحافظ في التقريب: مقبول ، شهد فتح مصر وسكنها .
وهذا فيه نظر بل هو إما صحابي وإما تابعي ثقة .
والله أعلم.
وقال الهيثمي(9/351) : [رواه أحمد والطبراني إلا أنه قال حدثني عمرو بن العاص من فيه إلى أذني ورجالهما ثقات ].
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله- في إرواء الغليل(5/123) : [وإسناده حسن أو قريب منه رجاله ثقات غير حبيب بن أبي أوس ، ذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر ، ووثقه ابن حبان ، وقال الحافظ: "مقبول ، شهد فتح مصر وسكنها ، من الثانية" ].
فالخلاصة أن الحديث من هذه الطريق صحيح .
ويشهد لبعضه ما رواه مسلم في صحيحه كما سبق ذكره في التخريج.
والله أعلم .
## معاني بعض الكلمات: ##
الأدم : الجلد المدبوغ .
استقام المنسم : أي اتضح الأمر ولم يعد فيه لبس وشك . انظر لسان العرب(12/576) .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .