إن الإسلام العظيم حرص حرصاً شديداً على إرشاد
وهداية البشرية جمعاء لمعرفة ولو جزء بسيط من المكانة العظيمة للأنبياء
عليهم الصلاة والسلام عند الله الملك العظيم الذي خلقهم فطهرهم فاصطفاهم
فأحبهم فأحبوه فأرسلهم رحمة للعالمين كي يُثبتوهم على فطرة التوحيد
والإيمان بخالقهم ويحفظونهم من الضلال والتيهان في ظلمات الكفروالإشراك
والجحود بإرشادهم وهدايتهم إلى صراط الحق المستقيم. فالأنبياء عليهمالصلاة
والسلام جميعا هم يتصفون بالكمال البشري، فهم بمثابة الملائكة البشرية،وذلك
لأنهم معصمون عن معصية الله عزوجل بشكل مقصود ومتعمد لأنه لا يستقيم أن
يجعل الله سبحانه وتعالى الأنبياء قدوة ونموذج للبشرية في طاعة الله عزوجل
بالرغم من إقترافهم وإرتكابهم للمعاصي عن قصد وعمد ثم يُطلب سبحانه وتعالى
من الناس أن يقتدوا بالأنبياء العصاة وبنفس الوقت يطلب عزوجل من الناس عدم
معصيته ويعاقبهم إذا ما إقترفوا المعاصي وحاشى لله عزوجل أن يفعل ذلك،
ولكنهم ليسوا معصومين عن الإجتهاد الخاطئ الغير مقصود أوالوقوع في الخطأ
الغير مقصود أو النسيان وبالطبع هم معصمون عن الإقرار على الإجتهاد الخاطئ
الغير مقصود وعن الخطأ الغير مقصود كما أنهم من شدة ورعهم وتقواهم يتجنبون
صريح الكذب ويلجؤن إلى التورية والمعاريض في كلامهم إذا ما أكرهوا على ذلك
من أجل تحصيل مصلحة فيها دفع شر أو تحقيق خير، فمن أجل ذلك هم عبارة عن
نموذج للبشرية في عباد ة الله عزوجل مع الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية وهي
أن صحيفة أعمال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي صحيفة ناصعة البياض
ومطهرة من أي ذرة سيئة في معيار ميزان شريعة الإسلام العظيمة التي بُعث بها
سيد الخلق والبشرية جمعاء الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان
ومااستكرهوا عليه ) فهذا الحديث يشير بوضوح إلى أن الله عزوجل يعفو ولا
يعاقب المسلم على المعاصي التي يقترفها على سبيل الخطأ و النسيان والإكراه،
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام (لا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ
: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا ، وَالْكَذِبُ فِي
الْحَرْبِ ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ)، فهذا الحديث الشريف
يُشير إلى جوازالكذب في هذه الصور، مع الإشارة إلى أن الكذب في الإسلام هو
حرام سواء على المسلم أو على الكافر ولا رخصة فيه إلا ما استثناه الشرع في
هذه الصور،فالعلماء لم يختلفوا في جواز الكذب في هذه الصور، ولكن اختلفوا
في ما هو المراد بالكذب المباح، فقالت طائفة أنه جائز الكذب في غير هذه
المواضع إذا كان للمصلحة، بينما قال آخرون ومنهم الطبري أنه لا يجوز أصلا
وأنه ما جاء من الإباحة في تلك المواضع هو ليس صريح الكذب وإنما هو التورية
واستعمال المعاريض، وهي التلفظ بلفظ له معنى ظاهر وقريب والمراد حقيقة هو
المعنى البعيد والخفي. وأيضاً قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا حكم
الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) طبعاً
بشرط أن الحاكم يؤجر عندما يُخطئ إذا كان عالماً بالإجتهاد فاجتهد ، وأما
إذا لم يكن عالما فلا، وقد يقول قائل بأن هذه الأحاديث تنطبق على المسلمين
وأن الأنبياء عليه الصلاة والسلام هم جاءوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه
وسلم وبالتالي لا يشملهم هذا التخفيف والتجاوز عن الإجتهاد الخاطئ والخطأ
الغير مقصود والنسيان، والجواب طبعا هو لاوأنهم بمشيئة الله الملك العظيم
الرحمن العفو الغفار هم واقعون تحت هذا التخفيف،لأن الرسول صلى الله عليه
وسلم هو سيد البشرية وهو أيضا عبد مسلم وبالتالي هو واقع تحت هذا التخفيف
وبما أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعا هم مشتركون في تكريم وتشريف
النبوة، مع العلم بأنهم متفاوتون في المنازل لقوله تعالى (تلك الرسل فضلنا
بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم
البينات وأيدناه بروح القدس) وبالتالي ما ينطبق على الرسول صلى الله عليه
وسلم ينطبق على بقية الأنبياء والرسل جميعا مما يعني أنهم يقعون تحت هذا
التخفيف، وأيضا من جانب آخر أنه لا يستقيم أن يعفو الله سبحانه وتعالى عن
كلا العبد المسلم العاصي والمطيع بالتجاوز عن الخطأ والنسيان وبالأجر
للمجتهد المخطئ ولا يعفو عن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام لأن الأنبياء هم
سادة البشر جميعاً وخيارهم، وفيما يلي شرح وتوضيح الأخطاء الغير مقصودة
التي وقع فيهاالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
بما يخص سيدنا إبراهيم عليه السلام
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لم يكذب
إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث: "إني سقيم"، وقوله لسارة أختي،
وقوله "بل فعله كبيرهم"). فلو نظرنا إلى الثلاث كذبات فنجد أن جميعها ليست
كذب صريح وإنما هي عبارة عن تورية و معاريض. فالأولى تقع تحت الإكراه لأن
سيدنا إبراهيم عليه السلام أُجبر وأُرغم على التورية فقال أن سارة رضي
الله عنها هي أخته وهذا هو المعنى الظاهر أو القريب بينما هو يقصد أنها
أخته في الإسلام وهذا هوالمعنى البعيد والخفي، وقد فعل ذلك من أجل أن يُنقذ
سارة من اللعين النمروذ لأنه كان يأخذ كل فتاة جميلة متزوجة بأرضه ليزني
بها وكما هو مُشارفي الحيث النبوي الشريف أعلاه بأن الله الملك العظيم
الرؤوف الرحيم يتجاوز عن الإكراه. بينما في قوله عليه السلام ( إني سقيم )
ففيها معراض لأن المعنى الظاهرأو القريب هو أنه به مرض مزمن بينما المعنى
الخفي والبعيد هو أن أي إنسان ما دامت نهايته الموت فهو به مرض مُزمن لأن
نهاية أي مرض مزمن هو الموت، وقد قال ذلك من أجل أَنْ يَبْقَى في البَلَدِ
بَعْدَ أَنْ يَذهَبَ قَوْمُهُ إِلَى الاحْتِفَالِ بِالأَعْيَادِ خَارِجَ
البَلَدِ، وَذَلِكَ كي يُحَطِّم أَصْنَامَهُمْ. أما في قوله عليه السلام (
بل فعله كبيرهم) فقد طلب منهم عليه الصلاة والسلام بأن يسألوا الأصنام
المحطمة لكي تنطق وتدافع عن نفسها وتخبرهم إذا ما كان كبيرهم هو الفاعل أم
لا وهذا ظاهر في المقطع (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ) وهذا
هو المعنى الظاهر والقريب بينما المعنى الخفي والبعيد هو أن هذه الأصنام
المحطمة عاجزة عن النطق لكي تدافع عن نفسها وتُخبر عن الفاعل كما أن كبيرهم
الصنم هو أيضا عاجز عن النطق لإنكار هذه التهمة لأنه من المفترض أن لا
يقوم كبيرهم بهكذا فعل وهذا هوالمعنى الخفي والبعيد. وطبعا هو عليه الصلاة
والسلام قال ذلك من أجل أن يُظهر عجزهذه الأصنام المعبودة عن الدفاع عن
نفسها حتى ولو بالنطق وهو أبسط أنواع الدفاع عن النفس، فكيف يُمكن لها أن
تُدافع عن عبيدها. مما يعني أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قام بإستعمال
المعاريض في تظاهره بالمرض وفي نسبه التحطيم لكبير الأصنام من أجل هدف
مشترك وهو إقامة الحجة عليهم ببطلان وفساد معتقداتهم وزهقها، وبالتالي دفع
ظلم الشرك بالله عزوجل وهذا جائز لأنه إذا كان جائز إستعمال المعاريض من
أجل الإصلاح بين الناس كما هو مذكور في الحديث الشريف أعلاه فإنه بالتأكيد
جائز في حالة دفع ظلم الشرك بالله عزوجل لأن الإصلاح بين الناس هو إصلاح
ذات البين ودفع مظلمة مرادة بين اثنين مسلمين أو مسلم وكافركما قال ابن حزم
(رحمه الله تعالى ). وبالتالي إذا كان دفع المظلمة بين الناس جائز فإن دفع
ظلم الشرك هو أحرى وأولى أن يكون جائز لأن أعظم الظلم هو ظلم الشرك بالله
عزوجل والدليل على ذلك هو قوله تعالى (إِنَّاعَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
جَهُولًا) فهذه الآية تشير إلى أن الإنسان يظلم نفسه بظلم الشرك أو
الكفرعندما يخون أمانة توحيد الله عزوجل وعبادته وكذلك قوله تعالى (إِنَّ
اللَّهَ لاَيَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن
يَشَاءُ) فهذه الآية تشير إلى أن الله الملك العظيم الغفور الرحيم لا يغفر
ظلم الشرك بينما يغفر مادونه من الذنوب لأن الشرك هو أعظم من أي ذنب.
بينما بما يخص سيدنا يوسف عليه السلام
إن الحيلة التي ألهمها الله عزوجل سيدنا يوسف
عليه السلام بجعل الصاع الذهبي المرصع بالجواهر في متاع أخيه بنيامين نجد
فيها تورية، قال تعالى (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء
أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ في دين الملك إلا أن يشاءالله نرفع
درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) ، وكذلك
قوله تعالى ( قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا
لظالمون ) فالمعنى الظاهر هو أنه عليه السلام لا يتجرأ على إغضاب الله
عزوجل أن يأخذ أحد بجرم غيره لأنه لا يستطيع أن يظلم أحداً لم يرتكب
ذنباً،والمعنى الخفي هو أنه عليه السلام لا يستطيع أن يظلم أحداً من أخوته
بمعاقبته على جرم لم يرتكبه لأنه عليه السلام هو من أمر بجعل الصاع في متاع
أخيه بنيامين وكذلك لأن سيدنا يوسف عليه السلام هدفه من هذه الحيلة هو
إبقاء أخاه بنيامين عنده وليس معاقبة أحداً من باقي أخوته. وهنا يجب
الإشارة إلى رحمة وطهارة روح ورقة قلب سيدنا يوسف عليه السلام بحرصه على
إخبار أخيه بنيامين بالحيلة وطمئنته له قبل أن يتم إتهام أخيه بالسرقة وذلك
حرصا منه عليه السلام من إفزاع أو إخافة أخيه بهذه التهمة، قال تعالى (
ولما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا
يعملون) فهذه الآية الكريمة تشير إلى إعلام سيدنا يوسف عليه السلام لأخيه
بنيامين بالحيلة وبأنه أمره أن يكتم الخبر، ثم قوله تعالى ( فلما جهزهم
بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون)
فهذه الآية الكريمة تشير إلى حادثة إتهام أخوة سيدنا يوسف عليه السلام
بالسرقة، بالرغم من أنه عليه السلام قادر على أن يُخبر أخيه بنيامين بهذه
الحيلة بعد إتهامه إياه بتهمة السرقة وبعد أن يأخذه في حُكم ملك مصر.
وأيضاً حاول سيدنا يوسف عليه السلام تجنب صريح الكذب عندما قال عليه السلام
( من وجدنا متاعنا عنده ) ولم يقل (من سرق) عند إتهامه إخوته بالسرقة.
فهنا يبدو واضحا وجلياً كيف أن سيدنا يوسف عليه السلام لم يكذب كذباً
صريحاً وإنما كان في كلامه تورية والغرض من ذلك كان هو أخذ مظلمة أخيه
بنيامين بإرجاعه إليه وكذلك الإصلاح بينه وبين إخوته عندما صفح وعفاعنهم
وبالتالي هذه التورية جائزة لأنه كما يشير الحديث النبوي الشريف أعلاه بأن
التورية بهدف الإصلاح بين الناس جائز شرعاً. ولكن قد يقول قائل، لماذا قام
سيدنا يوسف عليه السلام بأخذ أخيه في حُكم ملك مصر ثم جعل أخوته يُخبرون
أبيهم سيدنا يعقوب عليه السلام بحادثة السرقة ثم من بعد ذلك قام بمصارحة
إخوته ومكاشفتهم بحقيقة ما جرى والعفو والصفح عنهم، بدلا من العفو والصفح
عنهم مباشرة دون القيام بهذه الحيلة. والجواب هو أنه عليه السلام أراد أن
يُعلمهم بأن الله الملك العظيم الحكم الحكيم قادر على أن يُمكن غيرهم في
شؤون حياتهم ومعاشهم كما مَكَنهم الله عزوجل في مصيره عندما كان طفلاً، قال
تعالى (فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضعة
مزجة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين)، وكذلك سبحانه
وتعالى قادر على أن يُقدر ويقضي عليهم الظلم كما ظلموه عليه السلام عندما
ألقوه في البئر لكي يأخذوه بعض المارة من المسافرين فيكون ذلك رادعاً
ومؤدباً لهم كي لا يعودوا إلى ظلم غيرهم أبداً، وبالتأكيد أنه عليه السلام
لم يفعل ذلك إنتقاما منهم لأنه عفى وصفح عنهم رغم مقدرته عليهم. إضافةً إلى
ذلك، كي يُعلمهم ويُنبههم إلى أن الله الملك العظيم العزيز المُعز أعزه
وكرمه لأنه نبي كريم ولأنه مظلوم بينما أذلهم وأهانهم الله عزوجل لأنهم
كانوا ظالمين، قال تعالى ( قالوا تالله لقد ءاثرك الله علينا وإن كنا
لخطئين)، وكذلك لأنه عليه السلام اتقى الله سبحانه وتعالى فلم يصبوا ويطاوع
النساء اللواتي راودنه عن نفسه بينما هم لم يتقوا الله عزوجل فيه وألقوه
في البئر، ولأنه صبر على ظلم إخوته له وعلى ظلم السجن بينما هم لم يصبروا
على ما أصابهم من شدة من الجدب والقحط ومن أخذ
أخيهم منهم فأظهروا ذلهم وإنكسارهم لسيدنا يوسف عليه السلام استرحاماً
واستعطافاً، ولأنه قابل إساءتهم له بالإحسان إليهم وبالعفو والصفح عنهم
وهذا ظاهر في قوله تعالى ( قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من
يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). أما بالنسبة لقوله تعالى (
ولقدهمت به وهم بها لولا أن رءا برهن ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء
إنه من عبادنا المخلَصين) فهذه الآية الكريمة تُشير إلى أن زوجة العزيز
قصدت وعمدت إجباره على فعل الفاحشة معها وذلك ظاهر في لفظ (ولقد همت به)
بينما سيدنا يوسف عليه السلام مالت نفسه إليها بمقتضى الطبيعة البشرية
وحدثته نفسه بالنزول عند رغبتها ولكنه أعرض عن وسوسة الشيطان ولم يعزم أو
يقصد فعل الفاحشة معها إطلاقا والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى ( كذلك
لنصرف عنه السوء ) أي أن الله عزوجل حفظه وعصمه عليه السلام من الفحشاء
بجعله يرى البرهان كي يصرف ويدفع وسوسة الشيطان اللعين عن قلب وروح سيدنا
يوسف عليه السلام وليس ليصرف قلبه وروحه عن عمل الفاحشة لأنه لو عزم عليه
السلام في قلبه وفي روحه فعل الفاحشة أي لو أن روحه أمرت وطلبت من جوارحه
فعل الفاحشة أي لو أن نفسه عليه السلام رغبت في عمل الفاحشة فعندئذ سوف
يريه الله عزوجل البرهان من أجل أن يصرفه عن السوء ولقال تعالى (كذلك
لنصرفه عن السوء) ولكنه عزوجل قال في كتابه الكريم (كذلك لنصرف عنه السوء).
وعند تدبر قوله تعالى ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف
عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ) نجد أن سيدنا يوسف عليه السلام
يرجو ويسأل الله أن يدفع عنه شرهن ويعصمه منهن كي لا يميل إليهن بمقتضى
الطبيعة البشرية فيجيبهن على ما يردن من الفاحشة والسوء وبالتالي يصبح من
الجاهلين إذا ماتعمد وقصد فعل الفاحشة لأنه من يتعمد ويقصد معصية الله
عزوجل فإنه جاهل في عواقب ذلك من حساب وعقاب وعذاب في نار جهنم، قال تعالى (
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) وفي ذلك إشارة واضحة لا لُبس فيها بأن جميع
الأنبياء عندما أخطؤا كان خطأهم غير مقصود لأنهم لم يصفوا أنفسهم بالجهل
وإنما وصفوا أنفسهم بالظلم وذلك لنقاء أرواحهم وطهارتها وشدة ورعهم وتقواهم
وخشيتهم من الله عزوجل ولذلك كانوا لا يقرون على هذه الأخطاء الغير مقصودة
وكانوا يُسارعون إلى الإستغفار والتوبة إلى خالقهم وملكهم وحبييهم سبحانه و
تعالى.
بينما بما يخص سيدنا سليمان عليه السلام
قال تعالى (ولقد فتنا سليمن وألقينا على
كرسيه جسدا ثم أناب )، فهذه الآية الكريمة تشير إلى الخطأ الغير مقصود الذي
وقع فيه عليه السلام عندما عزم الطوف على سبعين امرأة من نسائه في ليلة
واحدة من أجل أن تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ونسي قول (إن شاء
الله) ونسيان أداء ما هو واجب وفرض يقع تحت الخطأ الغير مقصود لأن ترك أداء
الفرض والواجب يُعتبر ذنب أي خطأ وبما أنه بسبب النسيان فهو يعتبر غير
مقصود لأن النسيان لا يحدث بإرادة الإنسان، فطاف عليهن ولم تحمل إلا امرأة
واحدة جاءت بنصف رجل،و قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي
الشريف أنه لو قال عليه السلام ( إن شاء الله ) لجاءت كل واحدة منهن بفارس
يجاهد في سبيل الله. ثم تاب عليه السلام واستغفر الله الملك العظيم
الغفور الرحيم على ما صدر منه وسأل ورجى الله عزوجل أن يُنعم عليه ويهبه
ملكا واسعا لا يكون لأحد غيره من بعده ليكون دلالة على نبوته عليه السلام،
قال تعالى (قال رب اغفر لي وهب لي مُلكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت
الوهاب )، لأنه كما هومعلوم فإن الله الملك العظيم العزيز الحكيم يخص كل
رسول أو نبي بمعجزات خاصة له غالبًا ما تكون من جنس ما برع فيه قوم النبي؛
فقوم سيدنا موسى عليهالسلام برعوا في السحر فجعل الله عزوجل عليه السلام
يلقي عصاه فتتحول إلى ثعبان مبين، وقوم سيدنا عيسى عليه السلام برعوا في
الطب فداوى عليه السلام الأبرص والأعمى وأحيا الموتى بإذن الله عزوجل، وبرع
العرب في البلاغة والشعر فأنزل الله عزوجل القرآن الكريم على الحبيب
المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان معجزة لهم عجزوا على أن يأتوا
بسورة من مثله. فيبدو واضحا أن الخطأ الغير مقصود الذي أخطأه سيدنا سليمان
عليه السلام هو بسبب النسيان الذي تجاوز عنه الله سبحانه وتعالى كما يشير
الحديث النبوي الشريف أعلاه.
بينما بما يخص سيدنا داود عليه السلام
قال تعالى (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ
فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى
بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى
سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً
وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي
فِيالْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى
نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ
رَاكِعًا وَأَنَابَ ) فهذه الآيات الكريمة تشير إلى قصة الملكين اللذين
دخلوا على سيدنا داود عليه السلام مسجده وهو منشغلٌ في العبادة و الطاعة
حيث جاءا في صورة خصمين على إفتراض وقوع مخصمة بينهما وذلك من أجل تنبيه
سيدنا داود عليه السلام على ما وقع منه حيث كان له تسع وتسعون امرأة وطلب
امرأة شخص ليس له غيرها وتزوّجها ودخل بها. فقال أحدهما إن صاحبي هذا يملك
تسعة وتسعين نعجة وأنا أملك نعجة واحدة والمراد هو أن عنده تسعا وتسعين
امرأة بينما عندي امراة واحدة لأن النعجة يُكنى بها عن المرأة، أي يُعبر
بها عن المرأة، فطلب مني جعلها تحت كفالته وغلبني في الجدال ووافقت على
ذلك.ثم قال له عليه السلام لقد ظلمك بهذا الطلب حين أراد انتزاع نعجتك منك
ليكمل ماعنده إلى مائة وإن الكثيرين من الشركاء ليتعدى بعضهم على بعض إلا
المؤمنين الذين يعملون الصالحات فإنم لا يبغون وهم قليل، فقال الملكان
صاعدين في صورتيهما إلى السماء: قضى الرجل على نفسه، فتنبه عليه السلام
لذلك وعلم وأيقن أنما الله عزوجل ابتلاه وامتحنه بزواجه من تلك المرأة
فعندئذ طلب المغفرة من الله عزوجل وخر ساجدا لله تعالى وتاب إلى الله عزوجل
وندم على ما صدر منه من خطأ غير مقصود والدليل على عدم تعمده عليه السلام
المعصية أنه عليه السلام بمجرد تنبهه إلى خطئه سارع إلى الندم والإستغفار
والتوبة إلى الله عزوجل، مما يعني أنه عليه السلام عندما تزوج بتلك المرأة
لم يكن يُدرك بأن ذلك خطأ غيرجائز لأنه لو أدرك ذلك لسارع إلى الإستغفار
والتوبة عندما تزوج بتلك المرأة كمافعل عندما نبهه الرجلان إلى ذلك.
وبالتالي يبدو واضحاً وجلياً كيف أن الله الملك العظيم الغفور الرحيم تجاوز
عن خطئه عليه السلام لأنه غير مقصود كما يشير الحديث النبويالشريف أعلاه.
أما بما يخص سيدنا نوح عليه السلام
قال تعالى (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ
فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَالَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ * قَالَ
رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ
وَإِلاَّتَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ)، فهذه
الآيات الكريمة تشيرإلى أن سيدنا نوح عليه السلام نادى الله سبحانه و تعالى
متوسلاً ومُتذللاً إليه بأن يُنجي سبحانه وتعالى إبنه ( كنعان ) من
الطوفان لأنه من أهله، فقال له سبحانه وتعالى أن إبنه ليس من أهله وأنه عمل
سيء غير صالح لأن أهله عليه السلام هم أهل السعادة لأنهم مؤمنين بينما
إبنه هو من أهل الشقاء لأنه كافر، ثم نبهه سبحانه وتعالى ونصحه بأن لا يطلب
النجاة لأبنه الكافر لأنه لا تجوز محبة الكافر وموالاته وإن هكذا طلب يقود
صاحبه إلى إرتكاب ذنب عظيم يجعله من الجاهلين لجهله بعقاب ذلك الذنب
العظيم، فعندئذ اعتذر عليه السلام إلى الله عزوجل عما صدر منه من خطأ
غيرمقصود بطلبه النجاة لإبنه الكافر واستجار واستغاث بالله عزوجل من سؤال
طلب يُغضب الله عزوجل وأعلن وإعترف بأنه إذا لم يغفر الله عزوجل له خطأه
هذا فإنه عليه السلام سوف يخسر عصمة ورعاية وحفظ الله عزوجل له في الدنيا
كنبي كريم وبالتالي يخسر أيضا التكريم والنعيم العظيم في الدار الآخرة.
فهنا يبدو واضحاً وجلياً كيف أن الخطأ الذي وقع فيه سيدنا نوح عليه السلام
هو خطأ غير مقصود لأنه عليه السلام لم يكن يعلم بأن محبته لأبنه الكافر
يُغضب الله عزوجل وهذا ظاهر في لفظ (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ
أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) وكذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى
نفى عنه عليه السلام تعمده وقصده إغضاب الله لأنه سبحانه وتعالى نفى عنه
صفة الجاهل لأن من يرتكب الذنب عن عمد وقصد فهو جاهل وهذا ظاهر في لفظ
(فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ
أَنْتَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ).
أما بما يخص سيدنا يونس عليه السلام
قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ
مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ). فهذه الآيات الكريمة تُشير إلى خروج
ذا النون، أي صاحب الحوت، وهو سيدنا يونس عليه السلام من بلده مغاضبا
لقومه لأنه ضجر منهم ولم يصبر على أذاهم وعلى تكذيبهم له وعلى إصرارهم على
الكفر فلم يكن له العزم على مواجهتهم ولذلك قال سبحانه وتعالى (َاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)، وبالتالي عندما خرج
عليه السلام عن قومه ظن أي إعتقد أن الله لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء بسبب
غضبه عليه السلام على قومه وفراقه إياهم.
وفي ذلك دلالة واضحة بأنه عليه السلام لم يتعمد أو يقصد معصية الله عزوجل
بمفراقته إياهم لأنه لو قصد ذلك لظن وإعتقد بأن الله عزوجل سوف يقضي
ويُقَدِر عليه العقوبة لأنه كما هو معلوم من يذنب أي من يتعمد معصية الله
عزوجل فإنه يتوقع العقوبة في الدنيا، ولذلك نجد أنه عليه السلام لم يظن أي
لم يعتقد بأن الله عزوجل سوف يقضي عليه العقوبة. كذلك الأنبياء عليهم
الصلاة و السلام معصمون عن إتباع الهوى، قال تعالى (يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله )
فهذه الآية الكريمة تُشير بكل وضوح إلى أن الله عزوجل يعظ سيدنا داود عليه
السلام أن يقع في الضلال إذا ما إتبع الهوى كما وعظ سبحانه وتعالى سيدنا
نوح عليه السلام أن يُصبح من الجاهلين عندما أحب إبنه الكافروطلب النجاة
له، وبما أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعا معصمون من الضلال لأنهم
نموذج وقدوة في الهداية فبالتالي هم معصمون من إتباع الهوى لأن
إنتفاءالمعلول،أي النتيجة، وهي الضلال يفيد إنتفاء العلة،أي السبب، وهو
إتباع الهوى الذي ينشأ عنه الضلال. وبالتالي يبدو واضحا وجليا أن الأنبياء
عليه الصلاة والسلام معصمون عن إتباع الهوى وبالتالي هم معصمون عن قصد أو
عزم المعصية. وبناءا على ذلك،فإن سيدنا يونس عليه السلام لم يتعمد أو يقصد
معصية الله عزوجل بمفراقته قومه مما يعني أن الله الملك العظيم الغفور
الرحيم تجاوز عن خطئه الغير مقصود كما يشيرالحديث النبوي الشريف أعلاه.
أما بما يخص سيدنا موسى عليه السلام
قال تعالى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى
حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ
هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ
شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى
عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ
مُبِينٌ * قَالَرَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ
إِنَّهُ هُوَالْغَفُورُ الرَّحِيمُ )، فهذه الآيات الكريمة تُشير إلى
الحادثة عندما دَخَلَ مُوسَى مَدِينَةَ مِصْرَ في وَقتٍ كَانَتْ خَاليةً
فِيهِ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ رَجُلَينِ يَقْتَتِلانِ وَيَتَضَارَبَانِ
أَحَدُهُما إِسْرئِيليٌّ (مِنْ شِيعَتِهِ) والآخَرُقِبْطِيٌّ (مِنْ
عَدوِّهِ) فَاسْتَغَاثَ الإِسْرائيليُّ بمُوسى، فَضَرَبَ مُوسَى
القِبْطِيَّ بُجْمعِ يَدِهِ في صدره، أَوْ بِعَصاً كَانَتْ في يِدِهِ
(فَوَكَزَهُ) فَقَضَى عَليهِ. فَقالَ مُوسَى: هذا الذِي حَدَثَ هُوَ مِنْ
عَمَلِ الشَّيطَانِ وتَزْيِينِهِ فهو الذي هيج غضبه عليه السلام حتى ضرب
القبطي فقتله عن غير قصد، وَالشيطان هُوَ العَدُوُّ المُبِينُ للإِنسَانِ،
فَينبَغي الحَذَرُ مِنْهُ. فَاسْتَغَفَرَ مُوسَى الله عزوجلُ، وَقَالَ
إِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِقْتْلِهِ القبطي، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ
ذَنْبَهُ،وَعَفَا عَنْهُ، واللهُ عزوجل هُوَ المبالغ في المغفرة للعباد
والواسع الرحمة لهم.فهنا يبدو واضحاً وجلياً كيف أن حادثة قتل سيدنا موسى
عليه السلام للقبطي هي خطأغير مقصود لأنه عليه السلام كان في نيته الضرب
وليس القتل وهذا ظاهر في لفظ (فوكزه موسى فقضى عليه ) وبالتالي فإن الله
الملك العظيم الغفور الرحيم تجاوز عن خطئه لأنه غير مقصود كما يشير الحديث
النبوي الشريف أعلاه.
أما بما يخص سيدنا آدم عليه السلام
قال تعالى (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى
آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) وكذلك قوله تعالى
(فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ
عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى). فهذه الآيات الكريمة
تشير إلى أمر الله عزوجل ونهيه لسيدنا آدم عليه السلام وزوجه حواء رضي الله
عنها عن الإقتراب من الشجرة والأكل منها لأنه إذا كان النهي حاصل في القرب
من الشجرة فإنه بالتأكيد حاصل في الأكل من الشجرة لأن الأكل من الشجرة
يلزمه القرب منها، ولكنه عليه السلام ورضي الله عنها خالفوا أمر الله عزوجل
ونهيه بسبب النسيان وبالتالي لم يحفظا ما أمر الله عزوجل به ولم يصبرا على
ما نهى سبحانه وتعالى عنه من القرب من الشجرة ولكن هذا الخطأ يُعتبر خطأ
غير مقصود لأن نسيان إلتزام الأمر أو نسيان مخالفة النهي يقع تحت الخطأ
الغير مقصود لأن مخالفة النهي يُعتبرذنب أي خطأ وبما أنه بسبب النسيان فهو
يعتبر غير مقصود لأن النسيان لا يحدث بإرادة الإنسان، ومن بعد ذلك الله
الملك العظيم التواب الغفور اصطفاه واختاره عليه السلام فقربه إليه عزوجل
وقبل توبته وهداه إلى الثبات على التوبة وعلى التمسك بأسباب الطاعة. مما
يعني أنه عليه السلام عصى الله عزوجل أي خالف أمره ونهيه سبحانه وتعالى
ولكن بدون قصد وعمد وهذا ظاهر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لما خلق
الله آدم مسح على ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم
القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ،
فقال : أي رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلا منهم ، فأعجبه
وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من
ذريتك يقال له : داود، قال : رب ، كم عمره ؟ قال : ستون سنة ، قال : أي رب
، زده من عمري أربعين سنة ،فلما انقضى عمر آدم ، جاء ملك الموت ، قال :
أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال :أولم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد
فجحدت ذريته ، ونسي آدم ، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم ، فخطئت ذريته )، فالحديث
النبوي الشريف يُشير بكل وضوح إلى أن سيدنا آدم عليه السلام أخطأ ونسي
وبالتالي لم يتعمد معصية الله عزوجل أما بالنسبة للمقطع جحد فجحدت ذريته
فالجحود هنا هو كناية عن مهابة ومخافة الموت لأنه عندما حان أجل سيدنا آدم
عليه السلام وأتاه ملك الموت فعليه السلام حاول أن يؤجل أو يؤخرساعة الموت
بإستفساره عن بقية عمره رغم علمه بأنه هو من أعطى الأربعين سنة فكان هذاهو
جحوده، وما صدر ذلك منه إلا مهابة ومخافة من الموت ومن بعد ذلك انسحبت تلك
المهابة على كل بني آدم لأنه مهما كان العبد تقي ومطمئن بإيمانه ومشتاق إلى
الآخرة وإلى جنات الخلود إلا أنه يبقى في قلبه خوفا ومهابة ولو مثقال ذرة
من لحظة الموت ومن لحظة لقاء الله عزوجل مالك الملك ومالك يوم الحساب ويوم
الجزاء (والله أعلم ).وبالتالي يبدو واضحاً وجلياً كيف أن الله الملك
العظيم الغفور الرحيم تجاوزعن الخطأ الغير مقصود الذي صدر من سيدنا آدم
عليه السلام وهو النسيان كما يُشير الحديث النبويالشريف أعلاه.
أما بما يخص الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى اللهعليه وسلم:
فنجد أنه عليه الصلاة والسلام لم يخطئ خطأ
غير مقصود ولم ينسى ولم يضطر إلى التورية أو المعاريض في كلامه بل كل ما
صدر منه هو إجتهاد خاطئ، فهنالك أمثلة متعددة، منها مثال اجتهاد الرسول
-صلى الله عليه وسلم- في الأقضية وفصل الخصومات:أنه قضى لهند بنت عتبة زوجة
أبي سفيان بالنفقة لها ولأولادها وأنه يجوز لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها
وولدها بالمعروف. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤكد للمتخاصمين أنه
بشر وأنه يحكم بالظاهر بناءعلى اجتهاده ، فعن أم سلمة أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون
ألحن بحجته من بعض فأقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا
يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار. وكذلك مثال اجتهاده صلى الله عليه وسلم
في أمور الحرب: اجتهاده في أسرى بدر ، فقد شاور الصحابة فيما يصنع بهم
فأشار عليه أبو بكر بأخذ الفدية منهم وأشار عليه عمر بضرب رقابهم ، ومال
الرسول -صلى الله عليه وسلم- في اجتهاده إلى اجتهاد أبي بكر فنزل قول الله
سبحانه معاتبا الرسول -صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ﴿مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وكذلك مثال اجتهاده صلى الله عليه وسلم في شئون الدنيا:
قوله للصحابة لما رآهمي ؤبرون النخل (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا) فلما
ذكروا له فيما بعد أن ثمر النخل قد سقط قال لهم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم )،
وكذلك مثال اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العبادات استغفاره لبعض
المنافقين وصلاته على بعضهم ، كما ثبت أنه صلى على عبدالله بن أبيّ ،
واستغفر لعمه أبي طالب ، فنزل قول الله سبحانه في شأن استغفاره للمنافقين:
﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ ونزل قوله تعالى في
شأن صلاته عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن أبي : ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى
أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾. ونزل قوله
تعالى في شأن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب : ﴿مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواأَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾. مما يعني أن الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم كان يُكتب له في كل إجتهاد خاطئ حسنة إستناداً إلى الحديث النبوي
الشريف المذكور أعلاه بينما باقي أخوته من الأنبياء عليه السلام جميعاً
كان بعضهم يُخطئ عن غير عمد وقصد وبعضهم ينسى وآخرون يضطرون إلى التورية
والمعاريض في كلامهم وكان الله الملك العظيم الغفور الرحيم يتجاوز عن
أخطائهم هذه فلا يكتب عليهم سيئة قط وبالتالي تبقى صحيفة أعمالهم نقية
طاهرة من أي ذرة سيئة ولكن بنفس الوقت الله عزوجل لا يكتب لهم حسنة على هذه
الأخطاء الغير مقصودة مما يفيد بكل وضوح أن الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم هو سيد الأنبياء وسيد البشرية جمعاء مع التأكيد والتذكير
دائما وأبداً بأنه فرضٌ علينا كمسلمين عدم المفاضلة بين الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام كفاضل ومفضول لأننا غير معصومين عن إتباع الهوى وعن ظلم
الآخرين وبالتالي الإساءة إلى الأنبياءعليهم الصلاة والسلام جميعاً تُعتبر
جريمةعظيمة، فضلاً عن ذلك أنه لا يستقيم ولا يجوز لمن هو أقل إيماناً
بتقييم من هم أكمل إيماناً وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعا، تماما
كما هو أنه لا يستقيم ولايجوز للتلميذ أن يقيم أستاذه أو معلمه لأنه أقل
علما منه، والسلام عليكم ورحمةالله وبركاته.