بسم الله الرحمن الرحيم
إن
معرفة الإنسان للأحوال التي تظهر فيها قدرة الله الملك العظيم على علم
الغيب وعلى علم سر الإنسان وجهره وعلم مصيره في المستقبل وعلى تسيير
وتخييرالإنسان وعلى هداية الإنسان وكذلك معرفة الإنسان لحال علمه عزوجل
السابق لأهل السعادة والشقاوة في الدار الدنيا ولحال فطرته سبحانه وتعالى
عباده على الإيمان به وعبادته، تساعد الإنسان على الدراية والمعرفة دون
الإحاطة لمشيئة وإرادة الله عزوجل في تسيير وتخيير الإنسان في إختياره
لطريق الهداية أو الضلال في الحياة الدنيا، وفيما يلي تفصيل وشرح هذه
الأحوال جميعها:
الأول: إن الإنسان هو في بعض الأحيان يُعتبر مسير كما في حالة الموت
والولادة لقوله تعالى ( وأنه هو أمات وأحيا ) لأنه عندما يكون الإنسان
مُسير فإنهذا يعني أنه ليس له أدنى نصيب من الإختيار في ما يُقدر أو يَقع
عليه من أقوال وأفعال وأحوال وغيرها من الأسباب الدنيوية وكما هو معلوم فإن
الإنسان مقهور ومُسيرفي الموت والحياة. وفي البعض الآخر يكون الإنسان
مُخير ومُسير معا في نفس الوقت بحيث أن ترجيح كل من التخيير والتسيير على
الآخر يختلف من حال إلى آخر، فتجد في بعض الأمور التي يقوم بها الإنسان
يكون التخيير فيها راجح على التسيير وفي أمورأخرى تجد التسيير راجح فيها
على التخيير وهكذا. بينما يستحيل أن تجد حالة يكون فيها الإنسان مُخير
بالمطلق أي بشكل كامل دون أي قيود، لأن الإنسان يُعتبر مُخيرعندما يملك
حرية مطلقة غير مقيدة في الإنتقاء والإصطفاء ما بين أمرين أو أكثر أوعندما
يملك حرية مطلقة غير مقيدة في قبول أو رفض أمرا ما، وبالتالي فإن الإنسان
ما كان له أن يختار أي سبب أو أمر دنيوي بمختلف أنواعه من حال وفعل وقول
وظرف زماني ومكاني وغيره من الأنواع إلا عندما يُقدر عليه ذلك السبب أو
الأمر الدنيوي بإرادة ومشيئة وخلق وإيجاد الله الملك العظيم الخالق القدير
فما لا يكون لا يُمكن إختياره. وهذا طبعا لعدة حكم منها (والله أعلم)، أنه
لو إستقام أن يكون الإنسان مُخير بشكل مُطلق وبدون قيود لظن الإنسان في
نفسه عندئذ بأنه خارج سلطان وقهر الله الملك العظيم، قال تعالى ( وما
تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن
الخليقة وعلى رأسها بني آدم هم مقهورون في كل حركاتهم وسكناتهم وأحوالهم
وأفعالهم تحت سلطان ومشيئة وإرادة وقدرة الله الملك العظيم القهار القدير
فما من إنسان يهتدي أو يضل إلا بمشيئة الله عزوجل لأنه ما يشاء يكون وما لا
يشاء لا يكون. أيضا، لكي يعلم الإنسان الظلوم الجهول أنه لم يكن الإنسان
ليهتدي إلا برحمة الله الملك العظيم الهادي الكريم لقول الرسول صلى الله
عليه وسلم (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلابِرَحْمَةِ اللَّهِ .
قُلْنَا : وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : وَلا أَنَا إِلا إِنْ
تَغَمَّدَنِي اللَّهُ " . وَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ). وذلك لكي
يعلم الإنسان أنه عندما يهتدي فإن ذلك يكون بفضل ورحمة الله عزوجل لأنه
سبحانه وتعالى هو من قدر وهيأ ومهد له أسباب الهداية الدنيوية التي قام
الإنسان بالإستجابة لها وإختيارها حتى إهتدى، قال تعالى( للذين استجابوا
لربهم الحسنى ). وفي المقابل، لكي يعلم الإنسان أنه عندما يضل فإنه يظلم
نفسه ولم يظلمه الله، قال تعالى( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) لأنه
عندما قدر الله عزوجل وهيأ للإنسان أسباب الهداية الدنيوية وأعرض عنها ولم
يستجب لها عندئذ هو من ظلم نفسه ولم يظلمه الله عزوجل، قال تعالى ( والذين
لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك
لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد ).
الثاني: إن الله الملك العظيم العليم الخبيريعلم ما كان وما هو كائن لقوله
تعالى ( وهو معكم أين ما كنتم ) وكذلك سبحانه وتعالى يعلم ما سيكون، قال
تعالى ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم
والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) فهذه الآية الكريمة تشير إلى أنه جائز أن يحب
الإنسان أمرا ويسعى له لأنه في ظاهره الخير فيعتقد أنه إذا ما أصابه فإنه
سوف يفرح ويَسعد به ولكن الله الملك العظيم العليم علام الغيوب يعلم أن ما
سيكون هو غير المتوقع والمُنتظر لأن هذا الأمر في باطنه الشر فإذا ما أصابه
ذلك الإنسان فإنه سوف يهلكه أويُؤذيه والعكس صحيح، أي قد يكره الإنسان
أمرا في ظاهره الشر ولكن يكون في حقيقته وباطنه الخير. وفي هذه الآية تظهر
قدرة الله عزوجل في علم الغيب، لأنه لو كان علم عواقب الأمور علم متوقع أو
يمكن التنبؤ به لما وجدت أموراً ظاهرها خير وباطنها شر أو العكس مما يعني
أنه من يعلم بواطن الأمور أي خفاياها يعلم عواقبها ونهايتها المستقبلية
وهذا من علم الغيب الذي يختص الله علام الغيوب به، وكذلك سبحانه وتعالى
يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، لقوله تعالى ( فانطلقا حتى إذا لقيا غلما
فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا) ولقوله تعالى (
وأما الغلم فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا )، فيبدو
واضحا كيف أن الله الملك العظيم العليم علام الغيوب يعلم بأنه إذا لم يقتل
الغلام فإن أبواه سوف يحملهما حبهم للغلام على متابعته على الكفر.
الثالث: إن الله الملك العظيم العليم الخبير يعلم حال الإنسان في الوقت
الحاضر وما سيؤول إليه حاله في المستقبل وبالطبع فإن الله سبحانه وتعالى
يعلم حال الإنسان فيما صدر منه في الماضي لأن الحاضر هو ماضي المستقبل، أي
أنه عندما يدخل وقت وزمان المستقبل فإن ما كان هو الحاضر أصبح من زمان
الماضي، وبالتالي بما أن الله عزوجل يعلم الحاضر في كل وقت وزمان فإن ذلك
يفيد علمه سبحانه وتعالى للماضي في كل وقت وزمان، قال تعالى ( وإن تجهر
بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)، فَعِلمُ الله عزوجل للسر يفيد بأن الله
عزوجل يعلم حال الشخص في الوقت الحاضر لأن السر هو ما يُسره المرء في نفسه
من الأمور التي يعزم القيام بها أو كل ما يخفيه المرء في مكنون نفسه ويغيب
عن غيره وبالتالي السرهوالنية لأن النية هي عزم القلب على أمر من الأمور
مما يعني أن الله عزوجل يعلم نية الإنسان وبالتالي يعلم حال قلبه ويعلم حال
روحه التي هي موجودة في قلبه ومتصلة في جسده مما يعني أنه سبحانه وتعالى
يعلم حال نفسه في كل الأوقات وكذلك يعلم كل عمل ينوي الإنسان القيام به في
الوقت والمستقبل الذي يلي الوقت الحاضر سواء مباشرة أوبعد حين لأنه إنما
الأعمال هي ترجمة لمكنون الصدر والنفس وهي الأمور التي ترغب فيها الروح
وتعملها الجوارح من قول وفعل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( إنماالأعمال
بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ). وأيضا، حال الإنسان في الوقت الحاضر
لايقتصر فقط على السر وإنما يشمل الجهر والعلانية لأنه كون الله عزوجل يعلم
ما يخفيه المرء ويُسره فإنه بالطبع يعلم ما يظهره المرء ويعلنه مما يعني
أن الله الملك العظيم العليم الخبير يعلم حال الإنسان من سر وجهر في الوقت
الحاضر، قال تعالى (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ). أما
حقيقة أن الله سبحانه وتعالى يعلم ماسيؤول حال الإنسان إليه في المستقبل
أي حال قلبه وروحه ونفسه في المستقبل فذلك لأن الله عزوجل يعلم حال الإنسان
وأسراره في الوقت الحاضر وهذا ما تم توضيحه أعلاه،وكذلك يعلم حال وأسرار
جميع الأسباب الدنيوية المحيطة بالإنسان بكافة أنواعها من أحوال وأفعال
وأقوال وظروف وبشر وجماد وحيوان و ظروف زمانية ومكانية وغيرها لقوله تعالى (
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )، وبناءا على ذلك فهذا يفيد بأن الله
عزوجل يعلم أيضا كيفية وماهية وتفاعل وتصرف وسلوك وحال الإنسان الذي سيؤول
إليه عندما يُقدر الله عزوجل ويقضي على الإنسان هذه الأسباب الدنيوية
والمقادير بمختلف أنواعها لأن الله عزوجل يعلم سر خلق الإنسان وسر جميع
مخلوقاته. إضافة لذلك، إثبات أن الله عزوجل يعلم ما سيؤول إليه حال الشخص
في المستقبل هو ظاهر في قوله تعالى(يعلم السر وأخفى)، فما هو أخفى من السر
الذي هو الحاضر هو المُستقبل لأن المستقبل مخفي ومستتر أكثر من السر أي
الحاضر ولا يظهر المستقبل إلا عندما يأتي وقته المُقدر وفق مشيئة وإرادة
الله الخبير العليم، كما أن إثبات أن الله الملك العظيم علام الغيوب يعلم
مايمكن أن يصيب الإنسان من خير أو شر حتى لو كان غيبي أو غير متوقع، لقوله
تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم
والله يعلم وأنتم لا تعلمون )، يفيد أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما سيؤول
إليه حال الإنسان في المستقبل لأنه إذا كان عزوجل يعلم المصير الذي سوف
يؤول إليه الإنسان من خير أو شرفي المستقبل فهذا يلزم أن الله عزوجل يعلم
جميع الأحداث المستقبلية وكل ما يدور في فلك هذه الأحداث من زمان ومكان
وغيرهما والتي أدت جميعها إلى ظهور هذه النتيجة المُستقبلية سواء خير أو
شر.
الرابع: إن الله الملك العظيم الهادي الكريم لا يهدي إلا من يُحب الهداية
ويرغب فيها ولا يهدي من لا يحب الهداية ويُعرض عنها ويحب الضلال لأنه لا
إكراه في الدين. قال تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم ) فهذه الآية الكريمة تُشير إلى أن الله عزوجل لا يُغير حال
الإنسان من هداية أو ضلال حتى يقوم الإنسان نفسه بتغيير نيته وقلبه وروحه
المتصلة بجسده أي نفسه، بالعزم على طلب الهداية أو بالعزم على الإعراض عنها
فإذا طلب الهداية ورغب فيها عندئذ سوف يمهد ويهيء الله عزوجل له أسباب
الهداية الدنيوية بمختلف أنواعها، أما إذا أعرض وإستكبر عن الهداية وأضل
نفسه فعندئذ الله عزوجل سوف يتركه في ضلاله، قال تعالى ( إن ربك هو أعلم
بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). فمن يصدق ويعتقد بألوهية ووحدانية
وعظمة الله الملك العظيم الواحد مالك الملك فعندئذ سوف يهيء ويمهد سبحانه
وتعالى لهذا الإنسان أسباب الهداية الدنيوية بمختلف أنواعها، فالله عزوجل
عليم بحال المرء وحال جميع ما يحيط به من الأسباب الدنيوية، لقوله تعالى (
ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم )، مع التأكيد على أن الإيمان
المراد في هذه الآية هو مُقتصر فقط على التصديق والإعتقاد ولا يشمل الهداية
لأنه قال الله عزوجل بعد ذلك ( يهد قلبه) ولم يقل (يزيد قلبهم هدى)، ودليل
آخر قوله تعالى ( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) فالآية الكريمة
تشير إلى أن الله عزوجل زاد الفتية هدى مما يعني أنهم عندما آمنوا كانوا
مُهتدين إلى عبادة الله عزوجل، وما يؤكد حقيقة أن المُهتدي يزداد هدايةً هو
قوله تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم )، فإيمانهم لم يكن
فقط مجرد تصديق وإعتقاد وهذا صحيح لأن الإيمان يمكن أن يشمل الهداية من
خلال طاعة الله عزوجل والإلتزام بأوامره ونواهيه لأن المؤمن إذا ما قرن
تصديقه وإعتقاده بألوهية ووحدانية وعظمة الله عزوجل بطاعته سبحانه وتعالى
فعندئذ هو يعتبر أيضا مُهتدي،وفي المقابل الهداية ليس بالضرورة أن تشمل
الإيمان، لأنه يمكن للمسلم الذي لم يبلغ مرتبة الإيمان أن يكونمهتدي بطاعة
الله عزوجل الغير مكتملة لإرتكابه المعاصي وباليقين الغير كامل والغيرراسخ.
وفي المقابل نجد في قوله تعالى ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني
وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي
القوم الفاسقين ) أنه عندما يميل وينحرف الإنسان عن طريق الهداية المستقيم
ويختارالضلالة فعندئذ يضله الله عزوجل بعدم تمهيد وتهيئة أسباب الهداية له
لأنه أعرض عن طريق الهداية فأضل نفسه وبالتالي سوف ينتج عن ذلك نتيجة
حتمية بسلوك الإنسان الضال لطرق الضلالة المتعددة فليس هنالك خيار ثالث،
وهذا ما يُعتبر بمثابة تمهيد وتهيئة الله عزوجل للضال أسباب الضلال
الدنيوية المتعددة. ولكن هنا قد يظهر تناقض ظاهري، فيقول قائل: كيف يستقيم
أن الله عزوجل لا يمهد ولا يهيء أسباب الهداية أو الضلال للإنسان إلا عندما
يختار بنفسه الهداية أو الضلال حسب ما ذُكر أعلاه، بينما إستنادا للحالة
الأولى تم ذكر أن الله عزوجل مهد وهيأ أسباب الهداية للإنسان الضال رغم أنه
ليس مهتدي وأنه على ضلالة ثم إستجاب لنداء الهداية واهتدى وكذلك أن الله
عزوجل مهد وهيأ أسباب الهداية للإنسان الضال رغم عدم رغبته وطلبه للهداية
فكانت النتيجة أنه إستكبر ولم يستجب لنداء الهداية. فالجواب هنا أنه ليس
هنالك أي تناقض، لأنه بما أن الإنسان الضال قد اهتدى ولبى نداء الهداية
واستجاب له فهذا يعني أنه عزم على الهداية ورغب فيها في نيته وقلبه وروحه
المتصلة في جسده، أي نفسه، وهو ما لا يزال في الظاهر ضال لكن الله الملك
العظيم العليم علام الغيوب علم ما في قلبه لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر
وأخفى و عندما ذلك الشخص غير وبدل نيته وحال قلبه ونفسه فعندئذ بدل الله
عزوجل حاله لقوله تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
ومهد وهيأ له أسباب الهداية الدنيوية بمختلف أنواعها فاستجاب ذلك الإنسان
الضال لنداء الهداية لأنه طلب الهداية في قلبه واهتدى لأنه وجد من الأسباب
الدنيوية ما تعينه على الهداية. أما بما يتعلق بأن الله عزوجل يهيء أسباب
الهداية الدنيوية لإنسان لايرغب ولا يطلب الهداية وبالتالي لا يستجيب لنداء
الهداية ويستكبر عنه، فإن تفسيرذلك هو أن الله عزوجل يهيء أسباب الهداية
الدنيوية لذلك الشخص من أجل أن يقيم الحجة عليه، لقوله تعالى ( من اهتدى
فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولاتزر وازرة وزر أخرى وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا ) فالآية الكريمة تشير إلى أن الله الملك العظيم هو
العزيز الغني فمن إهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها فلن يضر
الله عزوجل إعراض وإستكبار بعض الناس عن الإستجابة لنداء الهداية، ولكن
الله الملك العظيم هو العدل المقسط فلا يُعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه
بتبليغه دعوة الهداية سواء عن طريق رسول أو عن طريق نبي أو عن طريق من سار
على نهجهم من الدعاة.
الخامس: بالرغم من أن السعادة والشقاوة هي مقدرة ومفروغ منها في علم الله
السابق لخلق الإنسان في الحياة الدنيا، ولكن بالرغم من ذلك فإن الإنسان هو
من يختار لنفسه الشقاوة والسعادة. قال الرسول صلى الله عليهوسلم ( اعملوا:
فكل مُيَسرٌ لما خُلق له، أما من كان من أهل السعادة فسيُيَسر لعمل لأهل
السعادة. وأما من كان من أهل الشقاوة، فسيُيَسر لعمل أهل الشقاوة ).
فتفسيرهذا الحديث هو أن الله عزوجل خلق الكافرين والمنافقين ليكونوا من أهل
النار في علمه سبحانه وتعالى السابق لكل شيء فيَسَر لهم عمل أهل النار لكي
يستحقوا دخولها جزاءا وعدلا وكذلك خلق المؤمنين ليكونوا من أهل الجنة
فيَسَر وهيأ لهم عمل أهل الجنة لكي يستحقوا دخولها رحمة ومنة من الله
سبحانه وتعالى وهذا متوافق مع قوله تعالى ( إنا عرضنا الأمانة على السموات
والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما
جهولا* ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب على
المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) فهذه الآيات الكريمة تشير إلى
أن الله عزوجل خلق الإنسان وقدر عليه حمل أمانة عبادة الله سبحانه وتعالى
وتوحيده من أجل أن يعذب المنافقين والمشركين في النار جزاءا وعدلا على
أعمالهم وينعم ويتوب على المؤمنين بالجنة رحمة ومنة من الله سبحانه وتعالى
على أعمالهم، فمن كان من أهل السعادة لحبه للهداية وإختياره لها طبعا في
آخر ونهاية وخاتمة حياته وعمله وزمانه لقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما
الأعمال بالخواتيم ) وكذلك لقوله عليه الصلاة والسلام ( إن الرجل ليعمل
الزمان الطويل بعمل أهل الجنة ثم يُختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل
ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يُختم له عمله بعمل أهل الجنة )
فعندئذ يمهد ويهيء الله الملك العظيم الهادي الكريم له أسباب الهداية
الدنيوية بمختلف أنواعها لكي يعمل بعمل أهل السعادة أو عمل أهل الجنة من
عمل القلب بالنية الصالحة وعمل اللسان بالقول الصالح وعمل الجوارح بالطاعات
التي عزم القلب على عملها، بينما من كان من أهل الشقاوة في آخر ونهاية
وخاتمة حياته وعمله وزمانه فعندئذ يحجب الله الملك العظيم العدل المقسط
أسباب الهداية الدنيوية عنه لإعراضه عن الهداية وكرهه لها وبالتالي يصبح
أمامه لامفر من إتباع طرق الضلالة المتعددة أيها شاء لكي يعمل بعمل أهل
الشقاوة أو عمل أهل النار من عمل القلب بالنية الفاسدة وعمل اللسان بالقول
السيء وعمل الجوارح بإرتكاب المعاصي والآثام التي عزم القلب على عملها.
السادس: قد يقول قائل: كيف يُمكن للإنسان الكافر أن يُغير نيته وحال قلبه
وحال روحه من الفساد، أي الضلال،إلى الصلاح، أي الهداية، من أجل أن يطلب
الهداية من الله الملك العظيم الهادي الكريم فيهيء ويمهد سبحانه وتعالى له
أسباب الهداية كي يهتدي إلى نور الإسلام برحمة من الله عزوجل، فالجواب هنا
هو الرجوع إلى الفطرة السليمة وهي، دين الإسلام. قال تعالى ( قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب )، فهذه الآية
الكريمة تشير إلى أن الذي يعلم هو في منزلة أفضل عند الله عزوجل من الذي لا
يعلم لأنه كما هو معلوم العلم لا يأتي إلا من خلال المعرفة والدراية فالذي
يهتدي إلى نور الحق بعد معرفته هو بمثابة العالم صاحب العقل الصالح بينما
الذي يُضل نفسه عن نور الحق بعد معرفته وإقامة الحجة عليه وإعراضه عنه
وإختيار ظلمات الضلال هو بمثابة الجاهل، الذي لا يعلم، والذي لا يعقل لأن
عقله عاجز عن فقه وفهم كلام الحق وهذا مانجده ظاهر في المقطع ( إنما
يتذكرأولو الألباب )، فالألباب هي جمع لُب وهو ما صلح من العقل، فالعقل
موجود سواء عندالمسلم أو الكافر ولكن المسألة هل هنالك من صلاح في العقل أم
لا، لأنه إذا كان هنالك صلاح في العقل فهذا يعني أنه يوجد خير في روح صاحب
هذا العقل لأنه كما هومعلوم الروح هي التي تعقل وبالتالي هنالك فرصة أو
أملٌ في إهتدائه إلى نور الحق،وهو نور الإسلام، أما بالنسبة لمقطع ( إنما
يتذكر )، فإنما هي كافة ومكفوفة تفيدهنا التوكيد ويتذكر تعني من يستحضر
معرفة الحق بعد نسيانه، قال تعالى ( وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم
القيامة أنا كنا عن هذا غافلين )، فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن الله
عزوجل خلق بني آدم جميعهم من ظهر أبوهم سيدنا آدم عليه السلام ثم من ظهر
التالي فالتالي وهكذا على نحو ما يتوالد من الآباء في الترتيب وصولا إلى ما
هو كائن من البشر إلى يوم القيامة، فأخذَ سبحانه وتعالى منهم العهد
والإقرار والإعتراف على وحدانية وربوبية وعظمة الله الملك العظيم وذلك وهم
في عالم الذر، ومن بعد ذلك يُخبر الله الملك العظيم العليم علام الغيوب
البشرية جمعاء بأنهم سوف يكونوا في عالم الدنياغافلين عن هذا العهد وعن هذه
الشهادة، أي سوف ينسون ذلك، وهنا يجب الإنتباه إلى هذا التعبير القرآني
الدقيق والعظيم، فلغوياً غفل الشيء: معناها ترك الشيء إهمالامن غير نسيان،
بينما غفل عن الشيء: معناها نسي الشيء. وبالتالي المقطع ( أنا كناعن هذا
غافلين ) يشير بكل وضوح ودقة بأن الله سبحانه وتعالى بمشيئته وإرادته
وحكمته أنسى بني آدم هذا العهد، أي جعلهم ينسوه، وذلك بعد أن أشهدهم على
أنفسهم بهذا العهد في عالم الذر وعندما خلقهم في عالم الدنيا، وقال تعالى
(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ
أَبْصَارُالَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ
هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ) فهذه الآية الكريمة تشير إلى أنه عندما
تحصل الأهوال العظيمة من زلازل وبلابل وغيرها قُبيل يوم القيامة، ثم عندما
يقع يوم القيامة ويرى الكافرون ويشاهدون الأمور العظام فعندئذ يعترفون
بظلمهم لأنفسهم عندما كفروا بالله عزوجل في الحياة الدنيا ولكن ذلك لن
ينفعهم، ويقرون ويعترفون بأنهم كانوا في غفلة من هذا في الحياة الدنيا، أي
نسواعهد وميثاق عبادة وتوحيد الله عزوجل،وهنا كذلك يجب الإنتباه إلى هذا
التعبير القرآني الدقيق والعظيم، فلغوياً غفل الشيء: معناها ترك الشيء
إهمالا من غير نسيان، بينما غفل من الشيء: معناها نسي الشيء. و طبعا هذا
النسيان هو لحكمة أساسية وعظيمة حيث يُبنى عليها جوهر الإسلام كله وهو
عبادة الله عزوجل بالغيب، قال تعالى ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم
مغفرة وأجر كبير) فمن مقتضيات أو متطلبات عبادة الله عزوجل بالغيبه و أن
يُنسينا سبحانه وتعالى ويحجب عنا حقيقة هذا العهد، لأنه ببساطة إذا ما
تذكروا بني آدم هذا العهد في عالم الدنيا فإنه لن يبقى أحد من البشر كافر
والجميع سوف يصبحوا مؤمنين وهذا يتنافى مع حكمة عبادة الله عزوجل بالغيب
وذلك من أجل أن يميز الخبيث من الطيب أي المؤمن من الكافر فيكون مصير
المؤمن الخلود في جنة النعيم بينما مصير الكافر هو الخلود في نار جهنم،
وبئس المصير، لقوله تعالى ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَلايَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ). أيضاً المقطع القرآني ( أنا كنا
عن هذاغافلين ) يفيد بأن الله عزوجل جعلنا ننسى ولم ننسى بإرادتنا وهذا
يتوافق تماما مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود إلا يولد على
الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) وكذلك قوله عليه الصلاة
والسلام ( كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها
وينصرانها) فهذه الأحاديث النبوية الشريفة تشير وبكل وضوح أنه عندما يخلق
الله عزوجل الإنسان على هيئة جنين في رحم أمه، فإنه سبحانه وتعالى يزرع فيه
الفطرة السليمة، وهي دين الإسلام الحنيف، عندما يأمرسبحانه وتعالى بنفخ
الروح في الجنين. ومن بعد ذلك فإن الله عزوجل يأتمن الأبوين على المولود
فإذا كانا على دين الإسلام فعندئذ المعرفة المكتسبة التي سوف يمنحاها إلى
طفلهما سوف توافق الفطرة السليمة ألا وهي الإسلام طبعا ذلك عندما يبلغ
الطفل مرحلة النطق ومرحلة إكتساب المعرفة والسلوك. أما إذا كانا على دين
الكفر سواء نصرانية أو يهودية أو أي دين وثني آخر، فإن المعرفة المكتسبة
التي سوف يكتسبها الطفل سوف تُخالف فطرة الإسلام، وهنا يجب الإنتباه إلى
نقطة بالغة الأهمية وهي أن فطرة الإسلام التي تُزرع في كل مولود لا يمكن
نسخُها أو إزالتها وإنما هي باقية مع الإنسان إلى يوم القيامة لأنه سوف
يتذكرها في يوم القيامة عندما يُكشف عنه الحجاب ولكن المعرفة المكتسبة التي
يكتسبها المولود بواسطة والديه هي إما أن توافق فطرة الإسلام أو أن
تُخالفها، ومن أجل ذلك أخبرنا الله عزوجل في الآيات الكريمة المذكورة أعلاه
بأن الإنسان في الحياة الدنيا هو غافل عن أو من حقيقة العهد الذي إلتزم به
في عالم الذر أي أنه ينسى الفطرة السليمة ولكنها تبقى موجودة في قلبه
ونفسه، والنسيان كما هو معلوم هو غياب شيء ما عن ذهن الإنسان،أي عقله أو
فهمه، وكذلك عدم تَذكُره لهذا الشيء وبالتالي يُصبح هذا الشيء محجوبا عن
إدراك ووعي الإنسان وهذا ما يتوافق مع حقيقة أن الإنسان يعبد الله الملك
العظيم بالغيب، قال تعالى (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو
رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَاوَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا
نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) ففي هذه الآية نجد الكافرين يوم
القيامة وعند الحساب يعترفوا ويقروا بأنهم الآن صلُحت عقولهم بعد أن زالت
الغشاوة التي كانت على قلوبهم فأصبحت أرواحهم قادرة على التفكير السليم
والصحيح من خلال سماع صوت الحق وإبصار نور الحق، ثم يعترفوا بأنهم الآن
موقنون بوحدانية وعظمة الله الملك العظيم الواحد القهار بعد أن عاينوا بكل
حواسهم جزءا من قدرة وعظمة الله عزوجل، وكما هو معلوم فإن اليقين لا يأتي
إلا بالمعرفة وبالعلم فلا يمكن لأحد أن يوقن بشيء لم يعهده أو يعلمه من
قبل، وهذا ما يتوافق مع حقيقة أنهم وقعوا في الحياة الدنيا تحت نسيان
إقرارهم بوحدانية وربوبية وعظمة الله الملك العظيم الذي قطعوه على أنفسهم
في عالم الذر، لأن نسيان الأمر هو يعني غيابه عن ذاكرتهم وعلمهم وعقلهم،
وهذا ما حصل معهم في الحياة الدنيا، ولكن النسيان الأمر لايعني إنعدامه في
ذاكرتهم وعلمهم وعقلهم وبالتالي عندما يكشف الله عزوجل عنهم الغشاوة التي
كانت تُغطي عقولهم وسمعهم وبصرهم يصبح بإستطاعتهم تذكر العهد الذي قطعوه
على أنفسهم في عالم الذر بالإقرار بوحدانية وربوبية الله عزوجل عندما
يُخلقون في الدار الدنيا مما يعني أنهم سوف يُقنوا بالعهد عندما يتذكروه،
وما يؤكد ذلك قوله تعالى ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )، وكذلك ما
يؤكد حقيقة نسيانهم لذلك العهد هو المقطع ( فارجعنا نعمل صالحا ) فبعد أن
يتيقنوا من ربوبية ووحدانية وعظمة الله عزوجل يطلبوا من الله عزوجل فقط
الرجوع ويجزموا بأنهم إذا ما رجعوا إلى الدنيا مرة أخرى فإنهم سوف يعملون
صالحا وهذا يفيد بأنهم سوف يتذكروا يوم القيامة ويوم الحساب ما نسوه في
الحياة الدنيا من عبادة الله عزوجل وتوحيده ومن أجل ذلك يطلبوا الرجوع فقط
ولا يطلبوا الهداية أو الإرشاد والتوجيه وتهيئة أسباب الهداية التي يهيئها
الله عزوجل لمن يطلب الهداية فعلى سبيل المثال لا يقولوا في الآية الكريمة
( فارجعنا نُصدق رُسلك ونعمل صالحا )، بالرغم من أن الإهتداء إلى العمل
الصالح كما هو معلوم يتطلب العلم والمعرفة به قبل القيام به لقوله تعالى (
اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم*علمالإنسان ما لم يعلم )، وكذلك يمكن
الإستدلال بدليل آخر وهو قوله تعالى ( وأنذرالناس يوم يأتيهم العذاب فيقول
الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا
أقسمتم من قبل ما لكم من زوال )، فالمقطع (يوم يأتيهم العذاب) يشير إلى يوم
القيامة ويوم الحساب لأنه في المقطع ( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم
من زوال ) تجد أن الله عزوجل يقرع الكافرين لإنكارهم زوالهم من دارالدنيا
إلى دار الآخرة وإلى يوم الحساب، ويبدو بشكل واضح أن هذا التقريع يكون حاصل
في يوم القيامة لأن الله عزوجل يقول لهم ( أقسمتم من قبل ) أي لما أقسمتم
وأنتم في دار الدنيا، ومن بعد ذلك يطلب الكافرون من الله عزوجل ويقولون (
ربنا أخرنا إلى أجل قريب ) مما يعني بأن وقت الحوار هذا يحدث قبل وقت
الحوار المُشار إليه أعلاه في المقطع ( ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا ) لأنه
كما هو معلوم بأن طلب التأخير أوالإمهال يُطلب في العادة قُبيل النهاية أو
بُعيدها، أي على سبيل المثال عندما يحضرالإنسان الموت ويكون هذا الإنسان
عاصي أو مُقصر في طاعة الله عزوجل فإنه عندئذ يطلب الإمهال أو التأخير كي
يؤدي الطاعات ويقوم بالأعمال الصالحة، لقوله تعالى (وأنفقوا مما رزقناكم من
قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق )،
بينما طلب الرجوع في العادة يكون بعد إنقضاء مدة أطول من حدوث النهاية. مما
يعني أنهم عندما يطلبوا من الله عزوجل في يوم القيامة الإمهال أوالتأخيرلم
يكن بعد قد تم الكشف عن الغشاوة التي تغطي عقلهم وسمعهم وبصرهم وبالتالي
هم مازالوا واقعين تحت فعل نسيان العهد الذي قطعوه على أنفسهم في عالم الذر
بالإقراربوحدانية وربوبية وعظمة الله عزوجل عندما يُخلقون في عالم الدنيا
وما يؤكد ذلك هو طلبهم أسباب الهداية من بعثة الرسل لقولهم ( نُجب دعوتك
ونتبع الرسل )، بينماعندما يطلبوا الإرجاع إلى دار الدنيا يكون قد تم الكشف
عن الغشاوة التي تُغطي عقولهم وسمعهم وأبصارهم مما يعني تذكرهم للعهد الذي
قطعوه على أنفسهم في عالم الذر كما قدتم الإشارة إليه سابقا وما يؤكد ذلك
هو عدم طلبهم لأسباب الهداية والإرشاد من بعثة الرسل وإنما يعلنون يقينهم
بوحدانية وربوبية وعظمة الله الملك العظيم. أيضامن جانب آخر، يمكننا القول
بأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على فطرة الإسلام رحمة ورأفة في عباده
لأنه إذا ما أراد الإنسان الضال أن يهتدي فإنه يجب عليه أن يعزم في قلبه
ونفسه على الهداية وهنا يظهر تساؤل مهم جدا، ماهو مصدر النية الصالحة
والقلب الصالح والنفس الصالحة عند الإنسان؟ والجواب هو الفطرة السليمة مما
يعني أنه ليس على الإنسان هو سوى الرجوع إلى فطرته السليمة وهو دين الإسلام
وذلك من خلال تَذكُر العقل الصالح، أي اللب، للحق أي إستحضاره للفطرة
السليمة بعد نسيانها،قال تعالى (إنما يتذكر أولو الألباب)، لأنه عندما يولد
الإنسان ويبدأ مرحلة النطق وإكتساب المعرفة فإن فطرته السليمة التي وُلد
عليها تكون منسية بالنسبة له وبالتالي المعرفة التي يكتسبها الإنسان إما أن
تكون متوافقة أو مخالفة لهذه الفطرة فإذا كان كافر فإن معرفته المكتسبة
سوف تكون مخالفة للفطرة السليمة بينما إذا كان مؤمن فإن المعرفة التي
يكتسبها بالعلم والمعرفة والتصديق والإيمان تكون متوافقة مع فطرته، وهذا
يُعتبر بمثابة إستراجعه للفطرة السليمة، ومن أجل ذلك تجد المؤمن مطمئن
بإيمانه أي نفسه تكون مرتاحة وساكنة لأن الإيمان والعلم الذي إكتسبه متوافق
مع الفطرة السليمة التي وُلد عليها، قال تعالى (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم
بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) وبالتالي فإن إسترجاع وإستحضار
الفطرة السليمة بالمعرفة التي يكتسبها عندما يرغب هو في ذلك بإذن الله
عزوجل يكون سبب في إصلاح نيته وقلبه ونفسه وفي عزمه على الهداية لأن إصلاح
القلب لا يأتي من الخارج وإنما يأتي من الداخل مع الإشارة إلى أن إصلاح
النية والقلب والنفس وكذلك الرجوع إلى الفطرة السليمة لا يمكن أن يتم بمعزل
عن أسباب الهداية المحيطة بالإنسان وذلك طبعا قد تم الإشارة إليه في الحال
الأول بأنه ليس ممكن أن تجد إنسانا مخير بشكل مطلق ولكن يمكننا القول بأن
الرجوع إلى الفطرة وعمل إصلاح النية والقلب والنفس هي أعمال يكون فيها
التخيير للإنسان راجحا على التسيير له بأقصى درجات الترجيح. أيضاً لو
افترضنا على سبيل الإفتراض فقط، أن فطرة الإسلام هي غير موجودة في الإنسان
عند خلقه وولادته فكيف يمكن له أن يستحضر هذه الفطرة بإكتساب معرفة موافقة
لهذه الفطرة وبالتالي كيف يمكن له أن يهتدي في قلبه وروحه المتصلة بجسده،أي
بنفسه مما يعني أن الله عزوجل أيضا لن يهيء له أسباب الهداية لأنه لا يوجد
في قلبه أي نية للهداية لإنعدام الفطرة السليمة وهذا يقودنا إلى نتيجة
مستحيلة أن يكون الإنسان بدون فطرة وبالتالي بدون أي توجيه أو إرشاد
للهداية وحاشى لله الملك العظيم الهادي الكريم أن يترك عباده دون هداية من
يطلب منهم الهداية أو حاشى لله الملك العظيم الحق المقسط أن لا يهيء أسباب
الهداية للضالين الذين يتكبرون عن الهداية ويعرضون عنها من أجل أن يقيم
عليهم الحجة وأن لا يكون لديهم عذرا لكفرهم، وفي هذا كله تظهر وتتجلى رحمة
الله الملك العظيم الرؤوف الرحيم بعباده. وبناءا على هذا كله نجد أن خلاصة
الحال السادس هو أنه ليس على العبد سواء مسلم أو كافر سوى الرجوع إلى فطرته
السليمة التي خلقها الله عزوجل فيه فالمسلم يمكن أن يستزيد من التقرب إلى
الله عزوجل كلما إقترب من الفطرة النقية بينما الكافر يهتدي إلى طريق الحق
المستقيم، وهو طريق الإسلام،عند رجوعه إلى الفطرة النقية، فهذا الحال
المذكور له أهمية بالغة لأنه يوضح بشكل جلي لا لُبس فيه بأنه نحن بني آدم
بالفعل قد أخذنا على أنفسنا في عالم الذر عهد الإقرار بربوبية ووحدانية
وعظمة الله الملك العظيم وبالإلتزام بما يقتضيه هذا العهد من متطلبات
العبادة والطاعة والإنقياد وتسليم النفس إلى مالكها سبحانه وتعالى عندما
نُخلق في الحياة الدنيا، ولكن نحن في هذه الحياة الدنيا غافلون عن هذا
العهد لحكمة أرادها الله الملك العظيم القدير الحكيم.
وبناءاً على ذلك فإن كل من العبد المسلم والعبد الكافر له أجل وزمان وعمل
محدد في عمل الحسنات والسيئات وفق مشيئة وإرادة وحكمة الله عزوجل لأن دار
الدنيا هي دار عمل، ودار إبتلاء وإمتحان، ودار إدخار للعمل الصالح وليس دار
إسراف في العمل السيء، وهي دار كد وتعب وإجتهاد وتوكل على الله عزوجل أكثر
منها دار راحة وإسترخاء ومتعة، فبالتالي كل عبد سواء مسلم أو كافر له دور
معين ومهمة محددة كما يختار هو فيما خيره الله عزوجل وكما سُيِرهو فيما
سيره الله عزوجل وفق مشيئة وإرادة وحكمة الله الملك العظيم الحكيم القدير،
فلا يمكن لإنسان أن يصلح البشرية جمعاء مهما كان تقي، قال تعالى (إِنْ
أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا
بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) فهذه الآية الكريمة
تشير إلى أن سيدنا شعيب عليه السلام يُعلن ويُخبر قومه بأنه يريد الإصلاح
بالدعوة إلى إتباع وتطبيق شرع الله عزوجل على قدر إستطاعته في خلال المدة
الزمانية التي يحددها الله عزوجل له، وكذلك لا يمكن لإنسان أن يُفسد
البشرية جمعاء مهما كان فاسد، قال تعالى ( وَلَوْلاَدَفْعُ اللّهِ النّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَـَكِنّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْعَالَمِينَ ) فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن الله الملك العظيم
المقسط الرحمن يمنّ على عباده ويرحمهم إذ سبحانه وتعالى يدفع عنهم الفسادأي
الأذى والشر بعضهم ببعضٍ, وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع
أفعاله وأقواله. فالناس هم ثلاث أصناف في عمل أهل السعادة وأهل الجنة الذي
قُدر وقُضي عليهم وعملوا به في الدار الدنيا وفق إختيارهم:
الأول: الصنف الذي يشمل المؤمنون والصالحون والأتقياء والمحسنون الذين
يبادرون ويسارعون في التقرب إلى الله الملك العظيم الودود العزيز بالطاعات
والأعمال الصالحة والنوافل والمستحبات فإذا جاء أجله وانتهى زمانه وعمله
وفق مشيئة وحكمة الله الملك العظيم الحكيم القدير، قال تعالى ( الذي خلق
الموت والحيوة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور)، فعندئذ تحين
ساعة موته رغم إقباله ورغبته الشديدة بالإستزادة في التقرب إلى الله سبحانه
وتعالى وعمل الصالحات فعندما ينظر الله الملك العظيم العليم الخبير إلى
قلبه ويعلم صدق نيته وإخلاصه لله عزوجل، عندئذ يضاعف الله الملك العظيم
الكريم الرحيم له حسناته أضعاف مضاعفة كما يشاء عزوجل، قال تعالى ( مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة
مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم)،وكذلك قوله تعالى ( من ذا
الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط) فهذه
الآية الكريمة تشير إلى أن الله الملك العظيم الشكور الكريم الذي يجزي على
القليل بالكثير فسبحانه وتعالى عندما تقرضه عملا صالحا وحسنا فإنه عزوجل
يُنعم على المسلم أو المؤمن بقبول العمل الصالح وبل يجازيهم عليه من
الحسنات والرحمة أضعافا مضاعفة كأنما هذا العمل الصالح ينمو ويربو ويزداد
ومن أجل ذلك وصف الله الملك العظيم الودود الكريم عمل المسلم أو المؤمن
الصالح بالقرض لأن هذا العمل الصالح إنما يحدث في الدنيا فيقبله الله عزوجل
ويدخره لهم في الآخرة وينميه لهم ويجازيهم بالحسنات المضاعفة أضعاف كثيرة
على هذا العمل الصالح. وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ومن هم بحسنة
فلم يعملها فَعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كُتبت له حسنة).
الثاني: الصنف الذي يشمل المسلمون العصاة الذين إهتدوا إلى طاعة الله عزوجل
والإخلاص له والتوبة إليه فإذا جاء أجله وانتهى زمانه وعمله وفق مشيئة
وحكمة الله الملك العظيم الحكيم القدير فعندئذ تحين ساعة موته رغم إقباله
ورغبته الشديدة على التوبة إلى الله الملك العظيم التواب الغفور والتكفيرعن
سيئاته، فبالتالي عندما ينظر الله الملك العظيم العليم الخبير إلى قلبه
ويعلم صدق نيته وإخلاصه وصدق توبته لله عزوجل عندئذ يُكفر الله الملك
العظيم التواب الغفور عن سيئاته، قال تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات)
وكذلك ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
وكان الله غفورا رحيما) وكذلك (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم
سيئاتهم).
الثالث: الصنف الذي يشمل المسلمون والمؤمنون الذين يجتهدون في طاعة وعبادة
الله عزوجل وتوحيده مع إرتكابهم للمعاصي لأن الإنسان ليس معصوم من إتباع
الهوى ومن ظُلم نفسه وظلم الآخرين وبالتالي يكون له نصيب مكتوب عليه من
المعاصي والآثام، فإذا جاء أجله وانتهى زمانه وعمله وفق مشيئة وحكمة الله
الملك العظيم الحكيم القدير فعندئذ تحين ساعة موته رغم إقباله ورغبته
الشديدة بعمل الطاعات والأعمال الصالحة وإجتناب الآثام والسيئات، فبالتالي
عندما ينظر الله الملك العظيم العليم الخبير إلى قلبه ويعلم صدق نيته
وإخلاصه لله عزوجل عندئذ ينعم الله عزوجل عليه بأن يجازيه الله الملك
العظيم الوهاب الكريم على أفضل وأحسن أعمالهم وأكثرها إخلاصا، قال تعالى (
ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون)، وكذلك يُثيبهم ويجازيهم على إجتنباهم
إقتراف المعاصي والآثام، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (قالت الملائكة: رب
ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة، وهو أبصر به، قال: ارقبوه، فإنعملها،
فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها، فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي)
أيمن أجلي، ويكفر الله الغفور الرحيم عنهم سيئاتهم وذنوبهم لقوله تعالى
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ). وكذلك يُضاعف لهم
الله الكريم الرحيم أجر أعمالهم الصالحة أضاعفا مضاعفة، قال تعالى ( من ذا
الذي يقرض الله قرضاحسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط ).
وكذلك لا يمنع أن يكون المسلم يجمع بين هذهالأصناف جميعها بحيث يكون مسلم
عاصي ثم يتوب ثم يصبح مؤمن مطيع مجتنب للمعاصي ثم يرتقي ليصبح من الأتقياء
والمحسنين والصالحين أو يكون مسلم عاصي ثم يتوب ويرتقي ليصبح مؤمن مطيع
ويبقى على ذلك أو يكون مؤمن مطيع ثم يرتقي ليصبح مُحسن تقي صالح (والله
أعلم). أما عمل أهل النار فهو صنف واحد وهو عمل مُحبط قُدر وقُضي وإقترفه
صاحبه وفق إختياره في الدار الدنيا ولكنه غير مقبول في الدار الآخرة،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المراجع:
1) موقع إسلام ويب الإلكتروني 2) موقع نداءالإيمان الإلكتروني 3) موقع قاموس المعاني الإلكتروني